الرئيسية / الرأي الأخر / عن مساعي الوساطة الجديدة تجاه الريف

عن مساعي الوساطة الجديدة تجاه الريف

المغرب: تأملات في ما أتت به مساعي الوساطة الجديدة تجاه الريف.. أو حين تلجأ الدولة إلى سلاح مأسسة الحراك في أفق إقباره

تميزت عمليات التفاوض التي باشرها النظام المغربي بشكل مباشر أو غير مباشر مع نشطاء حركة الريف المطلبية بكثير من الارتجالية والتعالي والرغبة في فرض أمر الواقع وطي الملف دون أخذ مطالب الحركة بعين الاعتبار ولا المعنيين والمخاطبين الأساسيين للحركة. ومن وجهة النظر هاته، فما كان يريده النظام ويصبو إليه هو أن يجعل من الحركة فاعلا أقل تعبئة وبسقف مطالب محدود في أفق اجتثاثها وشل حركيتها مراهنا على عامل الزمن وتآكل الحركة من الداخل مع مرور الأيام.

ومن الواضح، عمليا، أن الموقف السياسي للنظام يسير في اتجاه مقاومة أي حل جذري للمشاكل الاجتماعية موضوع الاحتجاج لأن في عملية الاستجابة إضعافا لهيبة الدولة ومساسا باستقرارها ومنح تأشيرة انتقال تلك المطالب والاحتجاجات إلى مناطق أخرى من البلاد. فمنذ انطلاق الشرارات الأولى لحركة الريف، لم يتوان النظام المغربي في استعمال وتجنيد كل الوسائل من قمع مباشر وغير مباشر، بما فيها توظيف بعض الأحزاب السياسية وبعض وسائل الإعلام كبوق دعاية لكبح الحركة وعرقلة تطورها.

لقد اعتمد النظام في سياق مقاومته لحركة الريف على توظيف استراتيجيات عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

ـــ استراتيجية شرعنة مطالب الحركة على مستوى الخطاب الرسمي على شاكلة المقولة الشهيرة للرئيس بنعلي “فهمتكم” والانتقال إلى الاستجابة بأنصاف الحلول عبر إجراء تدخلات صغيرة، كالزيارات الميدانية للمسؤولين الوزاريين وكذا إطلاق بعض الأوراش والترويج للجان التقصي والافتحاص؛ بحيث كان الغرض غير المعلن منها هو التخفيف من حدة التوتر والاحتقان، ولم يكن الهدف من وراء هذه المبادرات تحقيق مطالب الحركة لما في ذلك من مس بقدسية الدولة من جهة، وإعطاء مشروعية أكبر للحراك وتقوية وجوده من جهة ثانية، بل من الناحية العملية، كانت هذه الاستراتيجية مجرد محاولة إسكات العناصر الأكثر نشاطا، وإفراغ الحركة من كل مضامينها المطلبية حتى لا يبقى هناك مبرر لوجودها وتنتفي شروط بقائها عبر تراجع الفاعل وغياب المطلب.

ـــ استراتيجية الإنصات وتفريغ الغضب؛ فقد استعملت هذه الاستراتيجية في العديد من اللحظات المفصلية لتاريخ المغرب الحديث، خصوصا مرحلة ما بعد الحسن الثاني، وأشهرها جلسات الاستماع المنظمة من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة.

وقد حاول النظام استنساخ هذه التجربة عبر تنظيم مناظرة طنجة. ولاحقا عممها للأغراض نفسها في جل مناطق المغرب؛ حيث أعطيت الأوامر للولاة والعمال وكل رجال السلطة لتجنيد كل المصالح العمومية قصد تنظيم لقاءات مع السكان والإنصات لشكاياتهم.

ـــ استراتيجية التعامل مع مطالب الحركة كمشاكل تقنية تتعلق بأمور تدبيرية وليس كمشاكل ذات أبعاد سياسية مرتبطة بالسياسة العامة للدولة واختياراتها الاقتصادية، وفي هذا الاتجاه التجأت الدولة إلى توجيه أصابع الاتهام بشكل مباشر أو عبر الوكالة إلى المسؤولين عن تدبير الشأن المحلي والتلميح إلى تورط بعض المسؤولين الحكوميين في فشل وتأخر بعض المشاريع بالمنطقة، كما حاولت إقناع الرأي العام بمحدودية إمكانيات الدولة المالية واللوجستيكية للاستجابة لمطالب الحركة.

ـــ استراتيجية القمع ونسف الحركة والقضاء على كل شروط بقائها وتطورها، عبر التيئيس وزرع حالة الذعر والخوف في صفوف السكان وكذا عبر التدخل والقمع المباشر وشن حملة اعتقالات في صفوف النشطاء. أو من خلال سياسة الكبح من الداخل؛ إذ استعمل النظام المغربي هذه التقنية، وحاول من خلال بعض الخرجات مشبوهة المصدر خلق خلافات حادة ما بين النشطاء، قصد خلق التفرقة والفصائل ومن تم تعطيل القرارات، وخلق الارتباك، والإضرار بالطاقات الجماعية لمكونات الحركة.

ـــ استراتيجية خلق أحداث أخرى موازية للفت الاهتمام إليها عوض التركيز على ما يقع في الريف ومن تم عزلها وتفادي أي انتشار للحركة أو ظهور أي حركة تضامنية. وكذلك من خلال إنشاء ودعم حركات منافسة أخرى بحجج ومطالب معارضة لهوية حركة الريف. حركة العياشة والشباب الملكي كمثال.

ـــ استراتيجية التأثير على الصورة العامة للحركة، وكان الهدف منها إظهار النشطاء في صورة أقلية، علاوة على الترويج لتعارض مطالبهم مع المصلحة العامة عبر اتهامهم بالنزعة الانفصالية وخدمة أجندات أجنبية.

ـــ استراتيجية التقليل من أهمية وتمثيلية المشاركين في الحراك عبر إعطاء أرقام مشاركة مقزمة وعدم الاعتراف الرسمي بحقيقة وحجم المشاركين، وكذا محاولة ترويج فكرة أن الذين يشكلون الحراك وجبهة المطالبة هم فقط من يخرجون للاحتجاج في الشارع العام. والحقيقة أن مطالب الحراك هي مسألة وعي جماعي ومحط إجماع شبه تام.

ـــ استراتيجية التشهير وتشويه سمعة بعض نشطاء الحركة، كنشر بعض الصور أو الشائعات مفادها ارتكاب بعض نشطاء الحركة سلوكات غير مرغوب فيها اخلاقيا واجتماعيا. أو تلفيق تهم الانتماء إلى أيديولوجيات وتنظيمات محظورة، والغرض من ذلك هو إظهار أعضاء الحركة كنموذج صغير غير مؤهل للدفاع عن مصالح الحركة وخطها وبالتالي نزع الشرعية عنها.

لكن لا هذه ولا تلك من الاستراتيجيات استطاعت أن تلجم الحركة وتثني نشطاءها عن الاستمرار في المعركة والاستمرار في إبداع أشكال جديدة للاحتجاج والتنظيم خارج القوالب الموجودة والمعدة للمشاركة من جمعيات وأحزاب، ولم تنجح في إخضاعهم لمنطق قيادات المقرات، بل استمر الحراك بقيادات ميدانية لا يخضع عملها لأي منطق تراتبي في السلطة أو القرار. لقد استطاعت حركة الريف أن تربك حسابات النظام وجعلته مضطرا لإزالة قناع دولة (الحق والقانون واحترام حقوق الانسان).

إلا أنه رغم المقاومة والممانعة اللتين أبان عنهما الحراك يبقى من الضروري التنبيه إلى خطر حقيقي قد يعصف بكل هذه التراكمات والتضحيات؛ فكل المؤشرات تشير إلى أن النظام المغربي بصدد المرور إلى تبني استراتيجية أخرى استعملت في سياقات أخرى وبفعالية. هذه الاستراتيجية ترتب خيوطها ضمن مساعي وساطة يتزعمها بعض الفاعلين المدنيين، وتعتبر أكثر فعالية من الاستراتيجيات السابقة، وأقل تكلفة على المستوى السياسي رغم أنها بطيئة التنفيذ؛ إذ تشترط توفر شروط أساسية منها:

ـــ أشخاص لهم تأثير وشبكة علاقات كبيرة مع الحركات والفاعلين المدنيين مع توفرهم على رأسمال رمزي نضالي يؤهلهم لخوض غمار الوساطة.

ـــ ليس لهم ارتباط ظاهري مع النظام، بل من المستحب أن يكونوا ذوي انتماءات معارضة بغرض التمويه.

ـــ وجود حركات ذات زعامات تميل قناعاتها إلى أهمية التنظيم ونجاعته في حل المشاكل.

يشكل ترسيم وتحديد نظام فعل الحراك وإضفاء الصبغة المؤسساتية على المشاركة والتفاوض ما بين المحتجين والدولة حجر زاوية هذه الاستراتيجية. ويرتكز ميزان القوى فيها على أساس الاعتراف بسياسة النظام ومؤسساته وميكانيزمات عمله.

فهل يمكن أن تراهن حركة الريف من خلال الوصفة المقترحة هذه على بناء قوة تنظيمية مفاوضة قادرة على تحقيق توازن كبير في مواجهة سلطة الدولة؟ وهل التقارب المنشود بين حركة الريف والدولة، الذي تسعى إليه مبادرة الوساطة عبر آلية التنظيم ومأسسة الحركة، سيكون فعالا وبمضمون يستجيب لكل المطالب؟

حسب تقديري المتواضع، منذ بداية الحراك وإلى حدود الآن ليس هناك ما يفيد -وهكذا يجب أن يكون-وجود أية رغبة لدى النشطاء لإدراج مسألة مأسسة الحركة في جدول أعمالهم ولا في لائحة مطالبهم المعلنة، فمطلب شرعنتها أو تحويلها إلى تنظيم تحت أية صيغة ظل مستبعدا. وعلى العكس من ذلك، فإن استخدام الأشكال التنظيمية في عمليات التعبئة والفعل لا يترجم بالضرورة إلى قابلية الحركة الانضمام إلى المشروع السياسي الرسمي القائم لمفهوم المشاركة. لذا فمحاولة مأسسة وتنظيم حراك الريف له مغزى وهدف واحد ألا وهو ملاءمة أنشطة الحركة وطرق فعلها مع سياسات الدولة وممارساتها وطرق عملها. لتبقى في المقابل سياسات الدولة المحددة سلفا دون أن يطالها أي تغيير جذري، وبالتالي ما على نشطاء الحركة سوى الامتثال والقبول بمعايير وصيغ اشتغالها.

يؤكد Tarrow.S في كتابه “Power in movement: Social movements, collective” على أن “الاعتراف والاندماج بالنسبة لمعظم الحركات الاجتماعية يشكلان مصدرا للروتينية وفقدان الروح القتالية، وكذا صعوبة تحديد أهداف جديدة، وفقدان القدرة على التعبئة”. فبمجرد القيام بذلك، أي الاعتراف والقبول بقانون اللعبة وتحويل الحراك إلى تنظيم، سيجد مناضلو الحراك أنفسهم أمام ضرورة العمل في تناغم مع مجال السياسة العامة والامتثال لمعاييرها.

إن إضفاء الطابع المؤسساتي (في شكل تنظيم) على مطالب ونضالات حركة الريف سينتج عنه لا محالة ضعف في النقد والمطالبة والاحتجاج، نظرا لأن النشطاء سيصبحون رسميا وبمنطق المؤسسات وإكراهاتها مجرد مقدمي خدمات عامة: وسيأخذون موقع الوسيط الذي توكل له عملية تنظيم المشاورات بين مؤسسات الدولة والمحتجين وكذا الانتقال إلى موقع شريك الدولة في تنفيذ سياستها، بما في ذلك سياسة القمع غير المباشر.

شاهد أيضاً

سعيد الكحل: جماعة العدل والإحسان تُبْطن البطش وتُظْهر التسامح

نظمت جماعة العدل والإحسان يوم السبت 5 نونبر2022، ندوة فكرية سياسية بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيسها …

اننا نشهد اغتيال المراة المبدعة..

اننا نشهد اغتيال المراة المبدعة.. ربما ان الرصاص لايقتل دائما لكن موت الأحلام يقتل فعلا… …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.