توفيق ناديري
خلق الأداء المغربي المخيب للآمال في الألعاب الأولمبية، رغم بعض النقط المضيئة رجة كبيرة في الأوساط الشعبية والرياضية والإعلامية، أخذت بشكل تدريجي منحى آخر تجاوز البعد الرياضي إلى مستويات أخرى.
فمع الطفرة التي شهدتها لعبة الكرة القادم وتوجت بالمشاركة التاريخية للمغرب في كأس العالم والفوز بكأس أفريقيا للشباب وتألق منتخب السيدات وتوهج منتخب الفوت صال وعودة الأندية المغربية لواجهة الألقاب الإفريقية واحتضان المغرب بشكل متتالي لكأس أفريقيا وكأس العالم، ارتفع سقف التطلعات لدى كل المغاربة لرؤية هذا النجاح يسقط على باقي الرياضات، وهو للأسف ما لم يتحقق لعدة اعتبارات نتركها لأصحاب التخصص لتحليلها بعلاقة مع السياسات الرياضية الكبرى التي تتداخل فيها عدة أطراف.
في خضم هذا الإخفاق المنتظر، إذا ما تم استحضار نتائج الدورات السابقة، كان طبيعيا أن توجه سهام النقد لرؤساء الجامعات الرياضية ومحاسبتهم شعبيا على هذا الأداء، رغم تداخل المسؤولية بين مختلف الأطراف، بما فيها الأبطال أنفسهم، حول ما حصل في الألعاب الأولمبية وإذا كان بعض رؤساء الجامعات اختاروا الخروج الإعلامي، وما تلا ذلك من ردود أفعال غاضبة على ضعف هذا الخروج وارتباكه، فهناك مسؤولون آخرون، حال واجب التحفظ في مهام أخرى، دون أن يدافعوا عن أنفسهم وتقديم معطيات ومبررات ما حصل بكل موضوعية وشفافية وجرأة.
وداخل هذا النقاش الشعبي والإعلامي، برز اسم فيصل العرايشي بقوة في سيرورة جدل رياضي صرف اتخذ مسارا إعلاميا غريبا تداخل فيه الموضوعي بالعبثي.
فلا أحد يمكنه أن يغض الطرف عما حصل في الأولمبياد من نتائج مخيبة، إلا أنه لا يمكن أن نحمل الأشخاص، دون غيرهم من المؤسسات مسؤولية ما حصل وأن نجلد أشخاصا دون سواهم، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم تصفية حسابات غير رياضية، و بدون أية روح رياضية، مع أشخاص في قطاع ما بمجرد الفشل وعدم التوفيق في مجال آخر.
وبكل تجرد ومسؤولية وشفافية أقول وأعرف، أن هذا سيزعج كثيرين، إن ما تعرض له فيصل العرايشي وهو المتعفف عن المسؤولية، وهذا أمر يعرفه كل المقربين منه، غير موضوعي وغير منصف إطلاقا في شقه الإعلامي.
أقول قولي هذا، وبشهادتي غير المجروحة بحكم أنني أحد أكثر من كتب عن تسيير الرجل في العشرين سنة، وأعرف ما أقوله صدقا وإنصافا، وليس تملقا لا يشرفني ولا أبتغيه، وهذا معروف للقاصي والداني، ولا مجال للتدقيق فيه مادام لنا ذاكرة موثقة في هذا الباب .
مع النقاش التفصيلي، يمكن طرح عديد أسئلة جوهرية: هل قدم فيصل العرايشي تلفزيون يليق بمغرب الواحد والعشرين؟ وهل المغاربة راضون على تلفزيونهم ؟ وهل التلفزيون يمثلهم ؟.
من الوهلة الأولى، سيكون الجواب بالنفي، ولا أحد يمكن أن يقول العكس، اللهم أرقام المتابعة المجردة من الصدقية والرمزية والموثوقية، والتي لا تقنع سوى السوق الإشهارية ومروجيها.
وأعتقد أن الحسم في هوية التلفزيون وهامش تحركه وتزحزحه، كمرفق عمومي استراتيجي يتجاوز مسؤولية الرجل بما يشمل تداخل عناصر السيادة الإعلامية في رسم واقع ومستقبل الإعلام العمومي.
وإذ نأينا عن هذا البعد الاستراتيجي المعقد والزئبقي، يمكن القول بكل أمانة إن ما تحقق خلال الخمسة والعشرين سنة يقدم الأساس الصلب نحو تطوير الخدمة الإعلامية السمعية البصرية، على الرغم من هامش الفشل في مجموعة من الملفات.
وإن أبرز ما تحقق سياسيا وإعلاميا في الخمسة والعشرين سنة، هو الانتقال من زمن الاحتكار إلى زمن التحرير بما يشمل تقنين الشركات السمعية البصرية وهيكلتها بشكل تدريجي رغم الإكراهات المالية والإشكاليات البشرية، وما رافق ذلك من تأسيس هيأة تحكيم وإطلاق قنوات موضوعاتية وشاملة شكلت إضافة للمشهد السمعي البصري الوطني العمومي، في ظل إعلام خاص هش وغير متعدد وغير قادر على مواجهة القطب الرسمي بإمكانياته الضخمة.
وإن أهم ما عرفه التلفزيون في العقدين الأخيرين هو التحول التقني و الطفرة الرقمية التي سهلت عملية اندماج التلفزيون الوطني مع مختلف التحولات التكنولوجية بما فيها تغير نمط الاستهلاك وعدم ثبات عينة المستهلك وقوة التنافسية الاقليمية والدولية .
وإن أهم ما طبع التلفزيون في الخمسة و العشرين السنة الأخيرة، هو خلق صناعة درامية مغربية أتاحت خدمة عمومية للمشاهد المغربي، ووفرت فرص اشتغال آلاف المبدعين عبر محطات مختلفة، رغم عدم عدالة الاشتغال وتغول شركات إنتاج دون غيرها، وهذا ملف آخر.
وإن أهم محطة تاريخية لهذا التلفزيون في العقدين الأخيرين أن المغاربة في خضم سياق إقليمي عربي صعب في 2011 وجدوا أن تلفزيونهم محصن من الخطابات الإيديولوجية المتطرفة، قادر على الاستجابة لتطلعاتهم وهواجسهم،فما أن أعطي الضوء الأخضر، رغم تحفظ جهات حكومية آنذاك، حتى أصبحت القنوات العمومية منبرا لكل التوجهات بصرف النظر عن موقفها من النقاش الدائر حينها .
وتلخيص ما سبق وهو في أصله ملخص، يمكن الحسم بالقول إن التلفزيون العمومي منظومة سيادية معقدة تتداخل فيها عدة أطراف وتلامس مختلف القطاعات، وتخضع للسياقات،وإن محاكمة شخص ما، تفترض أولا الوعي التام بما نتحدث عنه، كمتخصصين، بعيدا عن الشعبوية السطحية أو تصفية الحسابات داخل سياق خارجي صعب يحاول النيل من المؤسسات، وإن محاكمة أي شخص تفترض أن تقال فيه كل الحقيقة.
والحقيقة التي نجرؤ على قولها الآن دون مواربة أو توجس أو تردد: نختلف مع فيصل العرايشي مهما اختلفنا ونقول عن حصيلته ما شئنا وشاؤوا، لكنه يبقى رجل دولة، مشمول بواجب التحفظ، تمرس على القيادة وفنونها، وقاد جهازا صعبا وحساسا، بقليل من الأخطاء الشخصية وبعيدا عن الشبهات المالية والأخلاقية، وأسس لنموذج معين للتلفزيون المغربي سيحكم عليه التاريخ بما له وما عليه كما قال حسني مبارك قبل زمن الفوضى في مصر .