الرئيسية / عين على التلفزيون / ستيتو ذاكرة السينما المغربية

ستيتو ذاكرة السينما المغربية

زووم24

 

التعريف بالمركز السينمائي المغربي

أقترح عليكم، أولا، تعريفا عاما بالمؤسسة السينمائية الرسمية التي تحمل إسم “المركز السينمائي المغربي” لفهم موقع “الذاكرة” التي سأتحدث عنها أسفله. فقد تأسست هذه المؤسسة سنة 1944 من طرف الفرنسيين، إبان فترة استعمارهم للمغرب، في أوج الحرب العالمية الثانية، وهي نفس السنة التي تم الإعلان فيه على وثيقة مطالبة الاستقلال من طرف الحركة الوطنية المغربية.

 

 

وكان الوطنيون المغاربة يعتبرون مقاطعة الأفلام الفرنسية والمُدبلجة بالفرنسية أو الإسبانية هو نضال وطني. وتشجع في نفس الوقت على مشاهدة الأفلام المصرية التي كان يُطلق عليها السينما العربية وليس المصرية لأنها الوحيدة التي كانت موجودة حينها كنوع من التضامن العربي.

 

 

وفي نفس السنة (1944) أنشأت فرنسا استيديو ومختبر سينمائي كان  معروفا باسم “استيديوهات السويسي”، يحيل الإسم إلى وجوده بحي له نفس الإسم بالعاصمة الرباط بينما مقر إدارة المركز السينمائي كان بحي حسان قبل أن ينتقل في أواخر الثمانينات إلى مقره الجديد بحي يعقوب المنصور. وقد تحولت تلك الاستيديوهات في ما بعد، في عهد الاستقلال، إلى مصنع للأفرشة الجاهزة.

 

 

وكان المركز السينمائي المغربي من المؤسسات الأولى التي استرجع المغرب سيادته عليها مباشرة بعد الاستقلال وألحقها بوزارة الأنباء والسياحة. سيبقى المركز السينمائي منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا مرتبطا عضويا بوزارة الأنباء. وهذه الوزارة ستتخذ أسماء أخرى فيما بعد كالإعلام ثم الاتصال بل الوزارة نفسها سترتبط هي أيضا بوزارات أخرى كما بدأت بالسياحة، منها الخارجية والوزارة الأولى والداخلية والثقافة ولم تكن الوزارة “مستقلة” بكيانها إلا فترات قليلة من تاريخها (ولا باس من الإشارة أيضا أن المغرب لم تكن به وزارة للثقافة إلا في أواخر الستينات من القرن الماضي).

 

 

وظيفة المركز السينمائي المغربي كما حددها له القانون، الذي عرف تعديلات متتالية، ترتبط بكل ما هو سينمائي وبالتصوير في الأجواء المغربية، تسليم تأشيرة العروض السينمائية من خلال لجنة/الرقابة المكونة من عدة وزارات أساسية من بينها وزارة الداخلية والتعليم والشؤون الإسلامية…(عرفت تعديلا نسبيا في السنين الأخيرة وأصبحت تحمل إسم لجنة التأشيرة وليس الرقابة) ومراقبة القاعات السينمائية ورُخص التصوير وإنتاج بعض الأفلام القصيرة.

 

كما أُنيطت له مهمة تنظيم أول مهرجان سينمائي بالمغرب وذلك سنة 1968 بمدينة طنجة كمهرجان للسينما بحر المتوسط لكن لم تنعقد إلا دورة واحدة. وسيعمل ابتداء من سنة 1982 على تنظيم المهرجان الوطني للفيلم الذي تطور كثيرا في العقد الأخير. القوانين المنظمة لمركز السينمائي المغربي جد مهمة ومتقدمة  التي تم تفعيل بعضها وهو ما أعطى زخما للسينما المغربية. وهي مؤسسة مستقلة ماليا رغم وصاية الوزارة عليها.

 

ينبغي أن نعرف بأن السلطة الجديدة في المغرب بعد الاستقلال السياسي قد احتفظت بمؤسسة المركز السينمائي المغربي لأسباب عدة منها أن القاعات كانت تدر أرباحا جد هامة للخزينة نظرا لإقبال المغاربة على الفرجة السينمائية لأنها الوحيدة المتوفرة في ذلك الزمن وهو ما شجع على تشييد القاعات في عمق الأحياء الشعبية وأزقتها لأنه لم يكن المغرب ـ وهذا هو المعطى الثاني ـ يتوفر بعد على قناة تلفزية فكانت القاعات تلعب هذا الدور الإعلامي لذلك نفهم أسباب إلحاق المركز بوزارة الأنباء وبقيت مرهونة بالإعلام والاتصال. وبالتالي فالمركز السينمائي المغربي هو الذي كان يلعب دور التلفزيون حينها في  تجميل صورة السلطة الجديدة والدعاية لها (بروباغاندا) من خلال نشرات إخبارية أسبوعية المعروفة باسم “الأنباء المُصورة” تلخص إنجازاتها، وتتبع الملك في تنقلاته وأسفاره، وتلخص خطبه، كانت هذه النشرات تُعرض طيلة الأسبوع قبل بداية العرض التجاري للفيلم بجميع القاعات السينمائية دون استثناء. كانت إلزامية لهم. كما كانت بعض القاعات تلصق في بهوها فهرس تلك النشرات إلا ان الجمهور لم يكن يهتم بها كثيرا إلا قلة قليلة من متقدمي السن. وكان لهذه النشرات قسم خاص بالمركز السينمائي بشرف عليها بالإعداد والتصوير والمونتاج والميكساج مما يدل على أهميتها. وقد استمرت لسنوات رغم ظهور التلفزيون وتعميمه. أغلب الأفلام القصيرة أو المتوسطة التي أنتجتها هذه المؤسسة الوطنية طيلة عقد الستينات والسبعينات كانت حول السياحة المغربية و”الإنجازات”. كانت “الأنباء المصورة” بنسختين: العربية والفرنسية حسب مستوى القاعات وشعبيتها.

 

أربعون سنة في خدمة السينما

في خضم هذه الأجواء التاريخية والسياسية للمركز السينمائي المغربي، إلتحق بها شاب يوم 31 أكتوبر 1976 في إطار التجنيد المدني الإلزامي (كان هناك أيضا التجنيد العسكري لمن لا يتوفر على شواهد عليا وقد توقف العمل بالتجنيد في المغرب). لم يكن هذا الشاب قد تجاوز 25 سنة من عمره. وهو أول عمل إداري يقوم به بعد تخرجه الجامعي بتفوق في شعبة القانون. هذا الشاب القادم من شمال المغرب. بالضبط من منطقة جبال الريف الأمازيغي حيث ازداد بمدينة الحسيمة الجميلة سنة 1953. ولا داعي للحديث الآن عن تلك المنطقة وتاريخها الاستثنائي وما عرفته من عقاب لكونها أول منطقة تمردت على السلطة الجديدة سنتين فقط بعد الاستقلال. كما أن إلتحاقه سنة 1976 بهذه المؤسسة هو أيضا تاريخ له مميزاته يمكن الرجوع إلى مصادرها للوقوف عندها.

 

 

يحمل هذا الشاب إسم “مصطفى سْتيتو” وتعني “ستيتو” الصغير في لهجة الشمال. فقد يبدو قصير القامة نسبيا إلا أنه كبير بمستواه المعرفي والأخلاقي والإنساني واجتهاده في العمل بفعالية نادرة عند موظف حكومي رسمي. وهذا ما جعل المركز السينمائي المغربي يحتفظ به كإطار لها وإدماجه إداريا كموظف رسمي بعد أن قضى السنتين من التجنيد المدني. كان ذلك يوم فاتح أكتوبر 1978. لم يغادر مصطفى اسْتيتو المؤسسة إطلاقا بقي مخلصا لها لمدة اقتربت من أربعة عقود (37 سنة بالضبط) حيث من المقرر أن يغادرها في نهاية السنة الحالية للمعاش. فقد حملوه المسؤولية تلوى الأخرى منذ اليوم الأول من تعيينه الرسمي، مسؤوليات أساسية ومركزية وأحيانا حساسة جدا. كما يمكن اعتباره خلال عقد التسعينات هو المسؤول الحقيقي والعملي على المركز السينمائي المغربي ولو أن ذلك كان رسميا ب”النيابة” عن المدير العام (كان حينها المخرج والمنتج وصاحب القاعات سهيل بنبركة هو المدير العام).

 

مصطفى اسْتيتو

 

أما المهمة التي قضى فيها أطول مدة فهي الكتابة العامة. منذ سنة 1997 إلى حد الآن. وتُعد الرتبة الثانية في تراتُبية الموظفين  بالمركز بعد المدير العام. كما يتحمل في نفس الآن مسؤولية رئاسة جمعية الأعمال الاجتماعية لنفس المركز منذ سنة 1992 حيث قدم خدمات كثيرة وملموسة للموظفين. وحقق لهم مكاسب مهمة. وعمل على تسهيل لهم مجالات في الشأن الصحي والاجتماعي جعلتهم في راحة ومأمن مقارنة مع مؤسسات عمومية أخرى كثيرة. يرجع ذلك لكونه رجل قانون وإداري محترف من درجة ممتاز في التسيير والتوجيه مع الصرامة في تطبيقها، وهي من الخصال التي ورثها واكتسبها من بيئته الريفية الأمازيغية ما يجعل بعض الموظفين لا يتحملونها هو الذي يتعامل بلباقة مع الضيوف السينمائيين وكل من هو خارج المؤسسة فيتوهمون ما ليس فيه، وأنه يعاملهم بقسوة علما أنه يحفزهم على الانضباط لقواعد العمل الاحترافي وأدائه في أحسن صورة وبأقل خسارة. فلولا صرامته لسادت الفوضى واللامبالاة في الوقت الذي يعتبر الوقت والزمن والدقة ركائز أساسية في مؤسسة لغتها اليومية هي أن تتعامل مع فن ينطق بالثواني وجزئياته ويدقق في الألوان والإضاءة والصوت، فن علمي وبالتالي فالعلم هو الوضوح والبحث عن هذا الوضوح.

 

 

ليس من السهل أن تكون واحد من أهم من يقف على رأس مؤسسة عمومية ذات حساسية استثنائية لأربعة عقود يدير فيها موظفين من مشارب مختلفة، تتوزع أعمالهم وأنشطتهم داخل الإدارة وخارجها. ويتعامل مع مجتمع سينمائي يحتوي على طبقات وفئات متنافرة تحضر فيها الذات الفنية بكل مشروعية. فضلا عن التعامل عما سيأتي من “فوق”، من خارج المؤسسة والوزارة الوصية ك”هوامش أساسية وليست مجرد هوامش جانبية”.

 

 

لقد نجح السيد مصطفى اسْتيتو في قيادة هذه الأوركيسترا الشاسعة ك”مايسترو” يتقن جيدا لعبة الاستماع والحوار والممارسة الميدانية برسم إيقاع منسجم لها يقبله الجمهور ويستمتع به. إنه حقا استثناء في تلك المؤسسة. هو دماغها المفكر وقلبها وأطرافها فيكون دائما حاضر يدافع عنها في عدد من المؤتمرات والتجمعات المهنية. وممثلا لها في كثير من المهرجانات من أمريكا الجنوبية إلى أقصى القارة الأسيوية مرورا بأوروبا، غربها وشرقها، دون أن ينسى مروره بعمق إفريقيا. إنه سفير السينما المغربية خارج المغرب وداخله التي واكب تفاصيل تاريخها بدقة حين كانت في العدم. إنه هو الذي هيأ لها التربة لتنتعش وتنمو وتزدهر بقوانين يعرف كيف يصوغها ويقبلها المعنيون بها. ثم يقوم بتطوريها حين تستنفذ طاقتها المرحلية عندما تبرز نواقصها في الممارسة الملموسة وهكذا دواليك. مؤمنا ببديهية علمية في قانون التطور هو القادم من مجال القانون القابل للتغيير كما للتأويل. وليس غريبا أن يتم بعد سنتين من إلتحاقه الرسمي بالمركز بداية العمل على دعم الإنتاج السينمائي المغربي حيث كان في المرحلة الأولى مجرد منحة تُقدم لجميع الأفلام المُنتجة في مطلع الثمانينات. ثم يصبح دعما في منتصف نفس العقد ضمن قانون جديد يؤطر هذا الدعم بلجنة مهمتها قراءات السيناريوهات واختيار منها من تستحقه. وصولا إلى الإطار الجديد وهو “التسبيق على المداخل” في الألفية الثالثة. كل ما يحدث في المركز السينمائي ـ منذ 40 سنة ـ تشم فيه رائحة مصطفى اسْتيتو وبصماته. فقد اكتشفت ذلك في عدد من الملتقيات الخاصة بالسينما المغربية التي يتحدث فيها عن القوانين المغربية فيتلوها كشرب الماء مما يدل أنه يعرفها عن ظهر قلب. وهو التفسير الذي يؤكد على أنه وراءها فكرا وقانونا وتنظيما وتطبيقا. إنه محامي السينما المغربية عن جدارة إذا تتبعنا نضالاته في المؤسسات والمنظمات والهيئات السينمائية في حوض المتوسط أو في العالم. وداخل المغرب في مؤسسة البرلمان. ورغم ذلك، لا يتباهى بها أمام الملأ. ولا يضع نفسه في المقدمة بقدر ما يعتبر ذلك يدخل في إطار عمله الوظيفي… والسلام عليكم. شخصية في غاية التواضع.

 

يقبل بالنقاش وتصحيح الأخطاء الرائجة إذ غالبا ما يجد نفسه في لجن بها الجهلة ومحدودي الأفق ليكون عمله مضاعفا فهو يكون بين نارين.

 

“العلبة السوداء” للمركز السينمائي

عاش حياته المهنية تحت الإدارة المباشرة لثلاث مدراء مختلفين جذريا عن بعضهم، في التاريخ السينمائي لكل واحد منهم، وفي أفكارهم وسياستهم. وهم قويدر بناني (1976 ـ 1986) وسهيل بنبركة (1986 ـ 2003) ونور الدين الصايل (2003 إلى الآن) ومع وزراء للإعلام أو الاتصال من مشارب سياسية متناقضة. يجمع بين الكفاءة والاحتراف والصرامة والأخلاق والإخلاص والذكاء وبالتالي لا أحد يزاحمه في مركزه وموقعه حيث اكتسب بهذه الصفات على ثقة المدراء جميعهم ووزرائهم أيضا. لهذا أعتبر شخصيا أن السيد مصطفى اسْتيتو الذي عايش كل هذه المراحل وتعامل مع كل تلك الشخصيات وكل المسؤوليات التي تحملها ودوره الفعال في الحقل السينمائي المغربي على امتداد أربعة عقود، يعني 40 سنة، هو بمثابة “ذاكرة” المركز السينمائي المغربي و”علبته السوداء” بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس بالمجاز. وهنا أستحضر أيضا علاقة هذه المؤسسة بمختلف الغرف المهنية في الحقل السينمائي بكل ألوانها وتلاوينها. فهو نفسه ـ أي السيد مصطفى اسْتيتو ـ جزء من تاريخ السينما المغربية التي يملك تفاصيل المعلومات التي قد تفيدنا كثيرا في فهم ما وقع وما كان يقع ويجرى خلال هذا التاريخ الطويل الذي تغيرت فيه خريطة العالم. أجزم بان له “علبة” غنية بما لا يبوح به الآن. له قدرة فائقة في المقاومة والصمود أمام الأسئلة المحرجة بحيث ينجح دائما بالانعراج بك نحو مواضيع أخرى في السينما دون أن تحصل على جواب حول مضامين “العلبة السوداء. لكنه قد يبادر بسرعة لتصحيح الأخطاء حول المركز إذا سمعها أو قرأها بإنارة المعني بها. كما يرفض أيضا بشكل قاطع الحديث بالسوء عن أحد سواء كان من الإدارة أو سينمائي أو يشتغل في إحدى مهن السينما بقدر ما يعطي الحق للجميع في الاحتجاج والنقد ورفض بعض التوجيهات أو القوانين لأن ذلك يساعده على معرفة مكامن الخلل لإصلاحه. كما يرفض الرد على منتقديه بل يتعامل معهم بشكل عاد وبدون تمييز أو حقد أو عرقلة حيث قال لي ذات مرة “إن مسؤوليتي الإدارية تفرض علي أن أترك الباب مفتوحا أمام الجميع وأن أتعامل معهم مهما توترت العلاقة” مضيفا بأنه “ليس لدي الوقت لأدخل في البوليميك والصراعات الهامشية لمجرد أن أحدهم لم يعجبه قرار لجنة ما أو يريد مني أن أتغاضى على خرق قانوني وغيرها من الأمثلة”. فأنا ـ يقول مصطفى اسْتيتو ـ موظف الدولة وهي التي تؤدي لي راتبي الشهري لذلك أنا حريص على أداء مهامي المنوطة بي في أحسن الأحوال، وأسعى أن أرضي الجميع في إطار القانون إذا تمكنت إلى ذلك سبيلا. يقول أيضا ” لا يمكنني أن أقضي يوما أو اسبوعا أو شهرا كاملا في مشادات مع شخص سبني أو أساء إلي لأن أمامي مهاما أكثر أهمية للوطن وليس للسينما فقط”. وتشاء الصدفة الغريبة أنه حين كنت بصدد كتابة هذا النص لمحت عيني في صحيفة مغربية موضوعة أمامي مقولة للزعيم الحكيم الهندي مهاتما غاندي يقول فيها: “لا يمكنني أن أجري طول عمري نحو كلب لأنه عضني”. فهل كان مصطفى على علم بهذه الحكمة التي طبقها فلم يضيع وقته في الفراغ؟  وما دٌمت أتحدث عن الصدف فإنه محظوظ من جهة أخرى بوجود إلى جانبه مُساعدة تشبهه في اللُّطْفِ وحُسن الاستقبال بابتسامتها الدائمة وتنظيمها المُحكم. قد تكون السيدة فاطمة الروادي عنصر مساعد له في العمل بالتخفيف عنه عبء التواصل وحل بعض الجزئيات دون أن يضطر هو شخصيا لذلك.

 

مصطفى اسْتيتو إطار محترف بهذا الحجم المعرفي يُحال إلى المعاش في الوقت الذي تعرف فيه السينما المغربية تطورا ملحوظا لكن مازالت في حاجة لمثل هذه الأطر الغنية لإثبات أقدامها جيدا. من حقه أن يرتاح خاصة وأنه كان في الواجهة، على الجبهة الأمامية في كل صغيرة أو كبيرة. ومن حقه أيضا أن ينتقل للعمل لحسابه الخاص ويستفيد مما زرعه منذ سنوات. لكن بعض الأقطار المتقدمة، تعمل الدولة فيها على الاحتفاظ بهذه الأطر في مواقع أخرى موازية أكثر راحة وطمأنينة كباحثين أو مساعدين ومستشارين لأنها ـ أي الدولة ـ أثمرت فيهم الكثير فلا تتركهم يضيعون في الطبيعة أو يستفيد منها الخواص بسهولة.

 

الناقد السينمائي “غير الرسمي”

مصطفى اسْتيتو هو حقا رجل الإدارة والقانون كما أسلفنا لكن يمارسهما في مؤسسة سينمائية حيث يفرض عليه عمله الذي هو أشد الارتباط بالفيلم السينمائي، ما دام كان يشرف مباشرة على لجن الدعم بمختلف تشكيلاتها وبالإنتاج أيضا. وبالتالي، فهو ملزم بمشاهدة الأفلام المغربية، أو التي صُورت في المغرب، أو تتحدث عنه من خارجه، فضلا على تتبعه لإنتاجات الآخرين المنتمية للأقطار العربية لقياسها مع الإنتاج المحلي. لا يمكن لشخص يشاهد الأفلام لأربعة عقود أن لا يكون قد تشبع بروح النقد واكتساب فضوله. يرفض الحديث عن الأفلام بشكل جماهيري وعلني احتراما للتخصص بل احتراما لموقعه كما يقول الذي يفرض عليه التحفظ. لكني تمكنت من الحديث معه عن أفلام كثيرة مغربية أو مغاربية وحتى إفريقيا حين يجمعنا سفر موحد لأكتشف فيه عيونا نقدية ثاقبة وتمتعه بدقة الملاحظة وبناء فكره النقدي مع أنه لا يدعي كونه ناقدا ب”الأقدمية”، لا يتجرأ على اختصاص الآخرين حسب قوله. لقد وجدت معه مرارا المتعة في الحديث عن السينما. وقدرته أيضا على تقييم ميزانية الفيلم من خلال دراسة لمشاهده ولقطاته. ناقد سينمائي محترف غير رسمي ولا يطمح لهذه الصفة. وما قلناه عن النقد يسري أيضا على التاريخ الذي هو صانعه ومؤسسه بحكم أنه يفعل في هذا التاريخ بشكل مباشر ويتوفر هو على مصادرها وليس ناقلا إياها عن بني المجهول، ومع ذلك لا يتطفل على علم التاريخ الذي له أدواته ومناهجه. رجل يعرف أين وكيف يمشي وأين يضع رجله بحكم رزانته الشخصية. إنه كتاب لم نقرأه بعد. تعرفنا فقط على بعض من صفحاته المنشورة في الجريدة الرسمية، صفحات من القوانين لتنظيم مهنة لم تكن إلى الأمس القريب موجودة في المغرب. لا ندري متى يسمح لنا بقراءة تفاصيله لنفهم تاريخ السينما المغربية الذي بسط أسسها وكيف كانت الكواليس بمصالحها وتناقضاتها تتجاذب في ما بينها.

مصطفى اسْتيتو شخصية سينمائية عمومية دون أن يكون مخرجا أو ممثلا. يعرفه الجميع لأن إسمه متداول أكثر من بعض المخرجين أنفسهم. ولا يجري أثناء المهرجانات وراء الأضواء أو الجلوس في الصفوف الأمامية قبل غيره في مواجهة الكاميرات بل تجده في تلك اللحظة يحل المشاكل الطارئة هنا وهناك كأنه إطفائي الحوادث العابرة. يمارس مهمته أينما حل وارتحل بدون تردد. ولا داعي للحديث عن هاتفه النقال، عفوا الشغال، على امتداد اليوم. وقد تجده في مكتبه في ساعة متأخرة جدا مركزا على ملفاته ـ وما أكثرها ـ بعد أن يذهب الجميع إلى فراشهم.

مهما كثرت عليه المهام والمسؤوليات وضغطها اليومي على امتداد الشهور والسنين إلا أنه لم يترك حقه في ممارسة مواطنته حيث يشارك في أنشطة ذات بُعد إنساني وتوعوي وتربوي منها على سبيل المثال الجمعية ضد حوادث السير التي  تحمل مسؤولية الكتابة العامة سنة 1996 وغيرها من الأنشطة التي يضع تحت تصرفها إمكانياته المختلفة. وهذا هو الذي جعله يتفوق في جمعية الأعمال الاجتماعية بالمركز السينمائي منذ سنة 1992 إلى يومنا هذا وهو على وشك مغادرتها.

يتساءل الكثيرون عن من يكون خَلَفَهُ؟ من داخل المركز أو خارجه؟ وهل سيحتفظ الخَلَف بما بناه السيد مصطفى اسْتيتو خلال 40 سنة؟ سيجد من سيجيء بعده الطريق مُعبدة بمكتسبات كثيرة لم يكن من السهل تحقيقها في الأجواء العامة التي ذكرناها أعلاه، طريق مرسومة عليها علامات السير الواضحة للتوجه أكثر إلى الآفاق المضيئة. أرضية العمل موجودة في الواقع وليس في متخيل الأدمغة الجامدة والسلبية. نقول هذا خوفا من ردة تهدم كل شيء وتتلف الصور الجميلة وتطفئ أنوار الأفق. باختصار شديد، مصطفى اسْتيتو هو رجل السينما. إنه سينمائي بالروح والجسد. ينبغي سيادة ثقافة الاعتراف بالجميل.

 

أحمد بوغابة / المغرب

المصدر: الجزيرة

شاهد أيضاً

قناة ‘تامازيغت’ تحقق رقما قياسيا في حصة المشاهدة

توفيق ناديري حققت القناة الأمازيغية رقما قياسيا كبيرا في حصة المشاهدة في اليوم الأخير من …

نمو قياسي لنسب مشاهدة قنوات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة خلال رمضان 1445 ه/2024 م

في إطار عروضها المتنوعة والغنية من برامج الترفيه والفكاهة والأخبار والثقافة والأعمال الدرامية التي تهدف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.